فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا شكَّ أن هذه المراحل تحتاج إلى مجاهدة، فهي قاسية على النفس، وقلما تجد مَنْ يعمل بها؛ لذلك ما جعلها الله على وجه الإلزام، إنما ندب إليها وحثّ عليها، فإنْ أخذتَ بأْولاَها فلا شيء عليك؛ لأن الله تعالى أباح لك أن ترد الإساءة بمثلها، فإنْ كظمتَ غيظك فأنت على خير، وإن اخترتَ لنفسك الرقي في طاعة ربك، فنِعمْ الرجل أنت، ويكفيك {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134].
ويكفيك أن المسيء بإساءته إليك جعل الله في جانبك، فهو مع إساءته إليك يستحق مكافأة منك، كما قال أحد العارفين: ألا أُحسن لمن جعل الله في جانبي؟
وضربنا لذلك مثلًا بالوالد حين يجد أن أحد الأولاد اعتدى على الآخر، فيميل ناحية المُعْتَدى عليه ويتودَّد إليه، ويحاول إرضاءه، حتى إن المعتدي ليغتاظ ويندم على أنه أساء إلى أخيه، كذلك الحق- تبارك وتعالى- إن اعتدى بعض خَلْقه على بعض يحتضن المظلوم، وينصره على مَنْ ظَلمَه.
ثم يُفاجأ قارون بالعقاب الذي يستحقه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض}.
والخسف: أن تنشقَّ الأرض فتبتلع ما عليها، كالذي يقول يا أرض انشقي وابلعيني، والخسف كان به وبداره التي فيها كنوزه وخزائنه وما يملك {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} [القصص: 81]، فما نفعه مال، ولا دافع عنه أهل {وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} [القصص: 81] أي: بذاته. فلم تكُنْ له عُصْبة تحميه، ولا استطاع هو حماية نفسه، فمَنْ يدفع عذاب الله إن حلَّ، ومَنْ يمنعه ونقذه إنْ خُسِفت به الأرض؟! وهنا ينبغي أن نتساءل: كيف الآن حال مَنْ اغتروا به، وفُتِنوا بماله وزينته؟
يقول الحق سبحانه: {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْا مَكَانَهُ}. لقد كانوا بالأمس يقولون {ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79]، لكن اليوم وبعد أن عاينوا ما حاق به من عذاب الله وبأسه الذي لا يُردُّ عن القوم الكافرين- اليوم يثوبون إلى رُشْدهم ويقولون: {وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص: 82].
كلما وَىْ اسم فعل مثل: أُفٍّ وهيهات، وتدل على الندم والتحسُّر على ما حدث منك، فهي تنديد وتَخْطيءٌ للفعل، وقد تُقال وَيْ للتعجب. فقولهم وي ندمًا ما كان منهم من تمني النعمة التي تنعَّم بها قارون وتخطيئًا لأنفسهم، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف التي تنعَّم بها قارون وتخطيئًا لأنفسهم، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف به وبداره، وهم يندمون الآن ويُخطِّئون أنفسهم؛ لأن الله تعالى في رزقه حكمة وقدرًا.
{يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص: 82] أي: يقبض ويُضيق، وليس بسْط الرزق دليل كرامة، ولا تضييقه دليلَ إهانة، بدليل أن الله يبسط الرزق لقارون، ثم أخذه أخْذ عزيز مقتدر.
وقد تعرضتْ سورة الفجر لهذه المسألة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].
فالأول اعتبر الرزق الواسع دليل الكرامة، والآخر اعتبر التضييق دليلَ إهانة، فردَّ الحق سبحانه عليهما ليُصحح هذه النظرة فقال: {كَلاَّ} [الفجر: 17] يعني: أنتما خاطئان، فلا سعةَ الرزق دليلُ كرامة، ولا تضييقه دليلُ إهانة، وإلا فكيف يكون إيتاء المال دليلَ كرامة، وأنا أعطي بعض الناس المال، فلا يُؤدُّون حقَّ الله فيه؟ {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلًا لَّمًّا وَتُحِبُّونَ المال حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 17-20].
إذن: فأيُّ كرامة في مال يكون وبالًا على صاحبه، وابتلاء لا يُوفَّق فيه، فلو سُلب هذا المال من صاحبه لكان خيرًا له، فما أشبهَ هذا المال بالسلاح في يد الذي لا يُحسِن استعماله، فربما قتل نفسه به.
وقوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [القصص: 82] تعجُّب من أنه لا يفلح الكافرون عند الله تعالى. وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه بقضية عامة ليفصل في هذه المسألة: {تِلْكَ الدار الآخرة}.
لأنه لا يصح أنْ يعلو الإنسان على بني جنسه، ولا على بيئته إلا بشيء ذاتي فيه، فلا يصح أنْ يعلوَ بقوته؛ لأنه قد يمرض، فيصير إلى الضعف، ولا بماله لأنه قد يُسلب منه.
إذن: إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك، إنْ أردتَ فبشيء ذاتي فيك، وليس فيك شيء ذاتي، فلست أفضلَ من أحد حتى تعلو عليه، كما أن الدنيا أغيار، وربما انتقل ما عندك إليهم، فهل يسرُّك إنْ صار غيرك غنيًا أو قويًا أنْ يتعالى عليك؟
ثم أنت لا تستطيع العلو إلا بالاعتماد على قوة أعلى منك تسندك، وجرِّب بنفسك وحاول أن تقفز إلى أعلى كلاعب السيرك، ثم أمسك نفسك في هذا العلو، وطبعًا لن تستطيع، لماذا؟ لأنه لا ذاتية لك في العُلو.
وما دام الأمر كذلك، فإياك أنْ تعلو؛ لأنك بعلوِّك تُحْفِظُ الآخرين؛ فإنْ حصل لك العكس شمتوا فيك، وأيضًا لأن الإنسان لا يعلو في بيئة ولا في مكان إلا إذا رأى كل مَنْ حوله دونه، وحين ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فَضلْ الله في خَلْقه.
ولو تأملت لوجدتَ في كل منهم خصلة ليست عندك، ولو قدَّرت أن الناس جميعًا عيالُ الله وخَلْقه، وليس منا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة ونحن جميعًا عنده تعالى سواء، وقد وزّع المواهب بيننا جميعًا بالتساوي، وبالتالي لا يمتاز أحد على أحد، فلم التعالي إذن؟ ولِمَ الكبر؟
وأيضًا الذي يتعالى لا يتعالى إلا في غفلة منه عن ملاحظة كبرياء ربه، وإلا فالذي يستحضر عظمة ربه وكبرياءه لابد له أنْ يتواضع، وأنْ يتضاءل أمام كبريائه تعالى، وأنْ يستحي أن يتكبر على خَلْقه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا كيف نحترم الآخرين؟ وكيف نتواضع لهم؟ فلما دخل عليه الصحابي الجليل عدي بن حاتم قام عن كرامة مجلسه له، يعني: إن كانْ جالسًا على وسادة مثلًا يقوم عنها، ويعطيها لصاحبه ليجلس هو عليها.
وهكذا يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على المساواة في المجلس؛ لذلك قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك لا تريد عُلُوًا في الأرض، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأسلم.
وعجيب ما نراه مثلًا في مساجدنا، وهي بيوت الله وأَوْلَى الأماكن بهذه المساواة، فتراهم إذا دخل أحد أصحاب النفوذ يفرشون له مُصلّى ليصلي عليها، مع أن المسجد مفروش، وعلى أعلى مستوى من النظافة، فلماذا هذا التمييز؟
ومع ذلك نجد منهم مَنْ يزيح هذه المصلَّى جانبًا، ويصلي كما يصلي بقية الناس، وأظن أن الذي يقبل أنْ تُوضع له هذه المصلى أظنه يبتغي علوًا في الأرض.
والحق سبحانه يريد للإنسان أن يعيش سوىَّ الحركة في أسوياء لتظل القلوب متآلفة، لا يداخلها ضغن، وإذا خلَتْ القلوب من الضِّغن وَسِع الناسَ جميعًا رغيفُ عيشٍ واحد.
ثم يقول سبحانه: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] أي: العاقبة الخيِّرة، والعاقبة الحسنة في النعيم المقيم الدائم للمتقين. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
مناسبة قصة قارون هنا، هي أن الآيات السابقة كانت تعرض مواقف المشركين من رسول اللّه، ومن الكتاب الذي بين يديه، وقد جمعت بينهم وبين فرعون، وجعلت منه ومنهم جبهة واحدة، تمثل الكفر، والعناد، والعتوّ، والفساد في الأرض.
وقصة قارون تطلع على هؤلاء المشركين من الماضي البعيد بصورة يرون في بيئتهم من يمشى بينهم في إهابها، وكأنما هو قارون بعث من قبره! وذلك فيمن كان يعيش في مجتمعهم من أغنياء اليهود، مثل حيى بن أحطب وغيره.
فالمشركون في صورتهم العامة، فراعين، في عتوهم وضلالهم، تتحرك في كيانهم أجسام غريبة، من اليهود، الذين جمعوا أموالا كثيرة، بأساليب لا يحسنها غيرهم. وبهذا تكتمل المشابهة بين مجتمع المشركين، ومجتمع فرعون. فكلا المجتمعين يتشكل من عنصر أصيل، وعنصر دخيل عليه.
وفي العنصر الأصيل كبر، وعناد، واستعلاء، وفي العنصر الدخيل انحلال، وفساد، وعفن. وكلا المجتمعين، بعنصريه- الأصيل والدخيل- حرب على الحق والخير.
وقوله تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}.
هو استحضار لأهل الكتاب في شخص اليهود، ثم استدعاء لليهود في شخص أغنيائهم، وأصحاب الثراء فيهم، ممن هم على شاكلة أبيهم قارون. وهذا الاستدعاء هو نذير لليهود من قبل أن يلقاهم الرسول لقاء مباشرا، حتى يأخذوا حذرهم لأنفسهم من أن يقفوا من قومهم موقف قارون في أجدادهم، حين يدعوهم الرسول إلى اللّه، فيتصدّى منهم قارون أو أكثر من قارون لهذه الدعوة. فإنهم إن فعلوا أخذهم اللّه كما أخذ قارون من قبل.
ففى قوله تعالى: {فَبَغى عَلَيْهِمْ} أي خرج من محيطهم، وانحاز إلى فرعون، ونسى أنه على دين يلتقى مع هذا الدين الذي جاء به موسى. وقد جاءت الأيام بصدق هذه الصورة، فيما كان بين أغنياء اليهود من تحالف بينهم وبين المشركين على محاربة الدعوة إلى الإسلام، سرا وجهرا. فكان أن أخذهم اللّه بما أخذ به المشركين، كما أخذ اللّه قارون بما أخذ به فرعون، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [26- 27: الأحزاب]- وقوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} الفاء هنا للتعقيب، بمعنى أن هذا الذي آتاه اللّه قارون من كنوز، قد كان بعد أن بغى على قومه، وانحاز إلى فرعون، وفي ذلك استدراج من اللّه سبحانه وتعالى له، حتى يغرق في الغى والبغي، كما يقول سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [55- 56 المؤمنون].
و{ما} في قوله تعالى: {ما إِنَّ} اسم موصول، وهو وصلته صفة للكنوز. أي أن اللّه سبحانه وتعالى آتاه من المال الذي مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة. والمفاتح، جمع مفتح، مثل كوكب. والمراد بالمفاتح هنا: المداخل التي يدخل منها على هذا المال. وهو لكثرته ونفاسته قد شددت الحراسة عليه. وفي إسناد، الفعل إلى المفاتح، وهي المداخل إلى هذه الأموال، وجعلها هي التي تدوء بالعصبة أولى القوة- إشارة إلى ما قام على هذه الكنوز من قوى شديدة ذات بأس من الخزنة والحرس، حتى إنها لتنوء، وتضعف عن حمل هذه القوى القائمة عليها. يقال: ناء بالحمل: إذا ضعف عن حمله، لثقله عليه. وكذلك المداخل التي يدخل منها على هذا المال الكثير، تنوء بما عليها من حراس أقوياء.
وقوله تعالى: {إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}. المراد بالفرح هنا: فرح الزهو والعجب والخيلاء. فهو فرح متولد من تلك المشاعر التي تحرك في صاحبها دوافع البغي والتسلط. أما الفرح، على إطلاقه، فليس بالمكروه، إذا كان عن قلب يجد لفضل اللّه وإحسانه موقعا منه، كما يقول سبحانه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [4- 5: الروم].
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} إشارة إلى أن الفرح المكروه، هو الفرح المبالغ فيه، والذي يخلى نفس صاحبه من كل شعور بقدرة اللّه، وبما لهذه القدرة من تصريف في شئون العباد، وتقلّب أحوالهم. فلو ذكر المرء هذا في حال من أحوال فرحه، لتخفف كثيرا مما هو فيه من فرح، ولعلم أنها حال لا تدوم، وأنه إذا لم يكن في مجريات الأحداث ما يقطع هذه الفرحة، قطعها الموت، وما وراء الموت من حساب وجزاء.
{والفرح} صبغة مبالغة من فرح.
قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
هذا مما وصّى به أهل الصلاح والتقوى من قوم موسى، قارون، هذا الذي استبد به العجب بماله، واستغواه الغى، بما ضمت عليه يده من سلطان بهذا المال. فهم يدعونه إلى أن يسلك بهذا المال، الطريق الذي تحمد عواقبه، وتتم به تلك النعمة.
وقد نصحوا له ألا يستبد به الفرح بما ملك، وفي ذلك إيقاظ له من سكرة هذا المال، حتى إذا صحا، دعوه إلى ما ينبغى أن يسوس به ماله هذا، فيطلب به رضا اللّه، ويقدم منه ما ينفعه في الآخرة، ويأخذ منه ما يصلح به شئون دنياه، فيجمع بذلك خير الدنيا والآخرة جميعا. وأن يحسن وينفق في وجوه الخير، مثل ما أحسن اللّه إليه، فيلقى إحسان اللّه بالإحسان إلى عباد للّه، فذلك هو زكاة هذه النعمة، وألا يتخذ من هذا المال أداة للفساد والإفساد في الأرض، والإضرار بالناس، وهضم مالهم من حقوق. إن اللّه لا يحب المفسدين.
قوله تعالى: {قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} وقد استقبل قارون هذه الدعوة الحكيمة الرشيدة بالاستخفاف والتحدي، شأنه في هذا شأن من غطى على بصره ما امتلأ به كيانه من أشر وبطر، فجعل كل نصح يلقى إليه، دبر أذنه، ومن وراء ظهره.
وقوله تعالى: {قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي}. إنه ينكر أن يكون للّه شيء فيما بين يديه من هذا المال الغمر. إنه قد توصل إليه بحسن تدبيره، وجمعه بجهده وكده.
والعلم الذي أوتيه قارون ليس العلم الذي تحصله العقول، أو تستشفه البصائر، وإنما هو علم تنضح به الطبائع الخبيثة، والنفوس المريضة، من نفاق، ومداهنة، وانّجار بالذمم والضمائر، مما يحسنه اليهود، ويأخذون به مكان الأستاذية للناس جميعا. وقد كان قارون في هذا العلم أستاذا لهؤلاء الأساتذة. فجمع هذا المال الوفير الذي كان موضع حسد من كثير من قومه، كما كان آفة مهلكة له.
وليس يعترض على هذا بقوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ} إذ قد يفهم من هذا أن اللّه سبحانه وقد آتاه هذا المال، إنما آتاه إياه هبة، وابتدأه به إحسانا، فهو- والأمر كذلك- لم يحصّل هذا المال بشىء من تلك الوسائل الخسيسة الفاسدة، خاصة، وأن القرآن الكريم قد استعمل هذا الفعل مسندا إلى اللّه في مواضع كثيرة، وكلّها في مقام الفضل والإحسان، وأجلّها ما كان من إيتاء اللّه سبحانه وتعالى الكتاب والحكم والنبوة، للكثير ممن اصطفى من عباده.
وردّنا على هذا:
أولا: أن هذا لا يدفع أن يكون اللّه سبحانه وتعالى قد ابتدأ قارون بهذه النعمة، وأولاه هذا الإحسان. ثم كان منه هذا الكفران باللّه، والجحود لفضله عليه، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ} [175- 176: الأعراف].